تحديث آخر نسخة 1.8.37

تقييم الموضوع :
  • 0 أصوات - بمعدل 0
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
نار الهوى و حرائق الهوا
#1
يا له من بريق يخطف الابصار ذلك المنبعث من وهج النيران و ذلك المتألق من عين المحبوب. فأيهما يا ترى أشد وقعا على النفس و اكثر تأثيرا على القوم.

فى الأساطير الإغريقية سرق " بروميثيوس " صديق البشر النار من الآلهة و أهداها الى الانسان حتى ينتفعوا بها فما كان من زيوس الجبار كبير الهة لأولمب إلا ان قيد إساره الى صخرة و سلط عليه نسرا ينهش أحشاءه عقابا له على ما اقترفه فى حق الآلهة من اهدائه لهذه الهبة الإلهية للبشر الفانين , و لم يخلصه من الأسر الا ابن الآلهه النصف بشري" هرقل".

و لما اراد الله تعالى أن يؤنس وحشة آدم خلق له حواء لتؤجج فيه مشاعر الهوى و الحب و تلهب فيه نار الأنس الى رفيق.

ففى الحالتين هناك نار : نار يغذيها الأنس و الحب و المودة و أخرى تغذى الحضارة و الحرب و السيادة. فأى النارين يا ترى أنفع و أجدى.

أما نار الحضارة : نار الهوا :فلا طهو لطعام و لا غزو و لا فتح بل و لا صناعة الا بها. و على الرغم من جبروتها و عنفوانها فلا قيام لها بغير الهوا و إذا أردنا الدقة فلا اشتعال لنار بلا أكسجين . و الأكسجين هو ذلك الغاز الجميل المحرض على الاشتعال و ايضا القاتل للكائنات الحية بتركيزاته العالية و اللازم لحيواتنا بتركيزاته المعتدلة. ذرة الاكسجين هى تلك الذرة اللعوب التى تهوى التلاعب بمشاعر الاخرين و اكسدتها مشعلة فيها الحرائق بأشكالها المتنوعة بدءأ من البسيطة منها كالصدأ – الذى هو عبارة عن اشتعال تدريجي بطىء للمواد بدءا من اصفرار الأوراق و انتهاء بصدأ المعادن – حتى حرائق الغابات.
و لكن هل كل الحرائق ضارة ؟ من ذا الذى يستطيع أن يزعم ذلك ؟ هل سمعت عن حرائق الغابات السنوية فى كاليفورنيا الامريكية ؟ و هل تعلم انه لولا هذه الحرائق السنوية لاندثرت هذه الغابات منذ زمن طويل ؟ هل تعلم لماذا ؟
إن هذه الغابات تتميز بوجود نباتات معمرة ذات جذور راسخة و دائمة و لا تنمو فيها اى انواع حولية رغم توافر بذورها فى التربة , و لكن عندما تحترق هذه النباتات – و هو أمر شائع الحدوث- تحدث انطلاقة مفاجأة لإنبات الأنواع الحولية, ثم تزول هذه الاعشاب من جديد بفعل الأنواع المعمرة التى سرعان ما تعاود النمو. و اذا لم تتدخل النيران بانتظام فان السقم يلحق بكافة الانواع النباتية . فقد ثبت أن الانواع المعمرة تنفث فى التربة جرعات كبيرة من مواد معوقة لانبات الأعشاب الحولية مسممة التربة من حولها, و عندما تندلع النيران فإن بذور الاعشاب الحولية التى لها القدرة على مقاومة النيران تجد الفرصة الملائمة للانبات.

وكل نار هى ثمرة أكسدة و سيدة الأكاسيد اجمعين هى ذرة الاكسجين و هى من الولع بإلهاب مشاعر الاخرين إلى الحد الذي ينبغى الحذر منها و الحرص كل الحرص فهى كالمرأة اللعوب الجميل التى لا تهدأ حتى تصرع بلحظها الفتان قلوب العاشقين و تستعين بسهام كيوبيد على صرعهم تحت محراب هواها. فكومات الدريس سيئة التخزين قد تشتعل تلقائيا اذا كان بالدريس كمية رطوبة زائدة مما يسفر عن تجمع الحرارة الناتجة عن سوء التخزين الى الحد الحرج الذي يؤدي لاشتعال المخزون بفعل تحرش الاكسجين الجوي به. أما لو امكن تبديد هذه الحرارة فور انبعاثها بالتهوية المناسبة لما وجد الحريق فرصة للاشتعال. و كذلك قد تحترق مخلفات الزيت فى الورش و المصانع بسبب تعرض سطوح كبيرة من الزيت المتبقى على أسطح الادوات و خرق التنظيف لفعل الهواء فيتجمع فيها من الحرارة ما يكفى لبدء تحرش اكسجيني بها مشعلا النيران. كما تعزى العديد من الانفجارات التى تقع فى بعض مناجم الفحم و اشباهه لكون هواء هذه المناجم مشبعا – فى كثير من الاحيان – بكميات كبيرة من تراب الفحم الناعم , الذي يمثلا وسطا مثاليا قابلا لفعل الاكسجين مسببا الحرائق و الانفجارات المألوفة داخل المناجم. و مثل ذلك قد يحدث فى مطاحن الدقيق و محالج القطن و الجوت حيث تنشر الحبيبات الدقيقة فى الهواء معرضة نفسها لتحرشات الاكسجين بها و لذلك لابد من تبريد هذه الاماكن باستخدام وسائل تهوية مناسبة.
مثل هذه التحرشات لأشباه الاكسجين من البشر قد تشعل الحرائق فى الأاجسام و القلوب اذا لم تواجه بالتبريد المناسب فور تعرضها لهذا الاغراء . فأى تبريد هذا الذي يناسب البشر؟ فى الصحيح من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم " أنه رأى امرأة فأتى زينب فقضى حاجته منها , و قال : إن المرأة تقبل فى صورة شيطان و تدبر فى صورة شيطان , فإذا رأى احدكم امرأة أعجبته فليأت أهله ,فإن ذلك يرد ما فى نفسه". و يوضح ابن القيم فى " الداء و الدواء " أن فى هذا الحديث عدة فوائد : منها: الإرشاد الى التسلي عن المطلوب بجنسه كما يقوم الطعام مكان الطعام , و الثوب مكان الثوب . و منها : الأمر بمداواة الإعجاب بالمرأة , المورث لشهوتها بأنفع الادوية و هو قضاء وطره من اهله , و ذلك ينقض شهوته لها , و هذا كما أرشد المتحابين الى النكاح , كما فى سنن ابن ماجة مرفوعا " لم ير للمتحابين مثل النكاح" .فنكاح المعشوقة هو دواء العشق الذى جعله الله دواء شرعا. و قد تداوى به داود صلى الله عليه و سلم و لم يرتكب نبي الله محرما و انما تزوج المرأة و ضمها الى نسائه لمحبته لها و أتم بها المائة.
و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن احب النساء اليه فقال " عائشة " رضى الله عنها و قال عن خديجة " إنى رزقت حبها ".
فمحبة النساء من كمال الانسان . و قد شفع النبي صلى الله عليه و سلم لعاشق أن تواصله معشوقته بالنكاح به فأبت . و ذلك فى قصة مغيث و بريرة لما رآه النبي صلى الله عليه و سلم يمشي خلفها و دموعه تجري على خديه , فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لو راجعته؟ فقالت أتأمرنى يا رسول الله ؟ فقال : لا , انما اشفع , فقالت : لا حاجة لى به , فقال لعمه العباس : يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة و من بغضها له ؟ " و لم ينكر عليه حبها و إن كانت قد بانت منه.
ثم يوضح ابن القيم رحمه الله أن عشق النساء على ثلاثة أقسام : قسم هو قربة و طاعة : و هو عشق الرجل امراته و هذا العشق حب نافع و هو ادعى الى المقاصد التى شرع الله لها النكاح , و أكف للبصر و القلب عن التطلع الى غير اهله و لهذا يحمد هذا العاشق عند الله و عند الناس.
و عشق هو مقت من الله و بعد من رحمته و هو اضر شىء على العبد فى دينه و دنياه. و هو كما قال بعض السلف اذا سقط العبد من عين الله , ابتلاه بمحبة المردان و هذه المحبة هى التى جلبت على قوم لوط ما جلبت , فما أتوا الا هذا العشق فقال الله فيهم " لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون".
و دواء هذا الداء الاستغاثة بمقلب القلوب و صدق اللجوء اليه و الاشتغال بذكره و التعوض بحبه و قربه و التفكر فى الالم الذي يعقبه هذا العشق.
و القسم الثالث هو العشق المباح: و هو الواقع من غير قصد كعشق من وصفت له امرأة جميلة أو رآها فجأة من غير قصد , فتعلق بها قلبه ولم يحدث له ذلك العشق معصية . فهذا لا يملك ولا يعاقب عليه. و الانفع له مدافعته و الاشتغال عنه بما هو انفع له منه, و يجب التكتم و العفة و الصبر فيه على البلوى فيثيبه الله على ذلك . و قد قال رجل لعمر ابن الخطاب رضى الله عنه : يا امير المؤمنين رأيت امرأة فعشقتها , فقال : ذلك مالا تملك. و قد قيل ليحيى ابن معاذ الرازى : ان ابنك قد عشق فلانة . فقال : الحمد لله الذى صيره الى طبع الادمي.
و أنشد بعضهم :
إذا أنت لم تعشق و لم تدر ما الهوى فمالك فى طيب الحياة نصيب.
و قال آخر:
إذا أنت لم تعشق و لم تدر ما الهوى فأنت و عير فى الفلاة سواء
و بالغ بعضهم و قال:
إذا أنت لم تعشق و لم تدر ما الهوى فقم و اعتلف تبنا فإنك حمار

إننا إذا ما شعرنا بالحب توردت وجوهنا و تسارعت نباضات قلوبناو تسارعت أنفاسنا, هل تدري لماذا؟ لأنه حينئذ تطلب تلك الوحوش الرابضه فى اعماقنا – و المسماة الميتوكوندريا – المزيد من الاكسجين حتى تولد المزيد من الطاقة اللازمة الكافية لاتساع حدقاتنا حتى نلتهم وجوه من نحب او حتى نصيخ أسماعنا متلهفين لسماع أنفاسهم.
فها أنتذا ترى الاكسجين يعود من جديد ليقتحم حياتنا ملهبا مشاعرنا بنيران الحب. و المرجل الذى تشتعل فيه هذه النيران هو هذه الجزيئات الدقيقة من الميتوكوندريا التى تتولى توليد الطاقة فى كل خلية من خلايا جسمنا و التى لو صمتت عن أفعالها النارية لتوقفت الحياة بداخلنا . و لذلك فهذه الميتوكوندريا هى الهدف الرئيسي لفعل السموم حتى تنتهى الحياة . و أيضا هى قبلة الاكسجين حتى تستمر الحياة.

والآن هاأنتذا قد رأيت ان كل من حرائق الهوى و الهوا ينبعان فى النهاية من نفس المنبع و لكن من ذا الذي يدرك أن هذا المنبع قادر على ان يشعل حريقا فى دربا أو قلبا على السواء؟
KHAIRI ABDEL GHANI
الرد
شكر من طرف :


التنقل السريع :


يقوم بقرائة الموضوع: بالاضافة الى ( 3 ) ضيف كريم