2007-10-26, 10:23 PM
إن قصة الحياة هي اعظم قصص الوجود ,فلولا أننا أحياء لما أدركنا هذا الوجود, الـذي لا يعنى شيئا للمادة الميتة.
فالوجود إنما يوجد لأنه يوجد من يعيه و يدركه.ووجودنا في هذا الكون يمنحه معنى خاصا في نظرنا- على الأقل-. لقد تطورت ملكاتنا وحواسنا لإدراك الكون بالصورة التي نعرفه بها الآن و هي صورة غير كاملة , ولكنها – على أية حال- كافية لتقدير مدى روعة و جلال و عظمة هذا الكون. و أيضا لمنحنا امتيازا معينا في هذا الكون.
فإذا كان" كوبرنيكوس" قد انزل الإنسان عن عرشه في مركز الكون فان الفيزيــــــــــــــاء الكميةQUANTUM ترتقى بنا- كمراقبين - إلى عنصر أساسي في الحدث. و تجربـــة " هرة شرودنجر" التي تظل معلقة بين الحياة و الموت حتى يتم رصدها ففى هذه التجربة الشهيرة التى توضح الخصائص العجيبة لعالمنا فى ضوء فى ضوء النظرية الذرية الكمومية : توضع هرة داخل صندوق مع قارورة من السيانيد و باتظار أن يؤدى مرور فوتون ضوئي ألى فتح القارورة من عدمه تبقى الهرة معلقة بين الحياة و الموت حتى يتم رصد حركة الفوتون أو فتح الصمدوق.مما يقدم مثالا واضحا على هذه الأهمية الاستثنائية لنا كمراقبين. فالعرض الكوني يمكن تصوره كعرض مسرحـــي لا يتم بدون جمهور من المشاهدين الذين لا يتدخلون في العرض بصورة مباشرة , غير أن وجودهم ضروري لاستمرار العرض , فليس هناك مسرح بلا جمهور و لذلك فمن غيــــر المتوقع – بالنسبة لأسلوب تفكيرنا-أن يوجد كون بلا حياة.
و لذلك فليس من المستغرب أن نجد في كل عقائد البشر الدينية ربطا وثيقا بين فناء الحياة و قيامة القيامة التي تعنى نهاية الكون كله.
لقد مر الكون بمخاض صعب و قاس حتى أثمر في النهاية مجموعة الظروف التعسفية الملائمة لاحتضان الحياة و مع ذلك فلم يكن بمقدور المادة الميتة أن تنبت الحياة بنفسها. و قد برهنت بحوث الكيميائي الفرنسي اللامع "لويس باستير" على أن الحياة لا تنبت إلا من حياة و انه لا يمكن حدوث توالد تلقائي للمادة الحية من أخرى ميتة أيا كانت طبيعة هذه المادة الميتة أو خواصها أو الوسط المحيط بها.
الانفجار العظيم:
بدأ العرض الكوني منذ نحو 15 بليون عام حيث كانت كل مكونات الكون مكدسة في حيز بالغ الصغر و كانت لها كثافة لا متناهية تروع الخيال. و في لحظة الصفر بدأت مسيرة الزمان و المكان و الطاقة , إذ انفجرت هذه النقطة بمنتهى العنف انفجارا عظيما هائــلا تدافعت على أثره بكل عنف و قسوة مكونات الكون الوليد في كل الاتجاهات.
ولا ينبغي أن نتصور أن هذا الانفجار العظيم قد احدث تمددا في مكان قائم بالفعل و إنمـــا كــــان الانفجار هو لحظة خلق كل مكونات الكون. ويمكننا أن نتصور مــــــدى عنف هذا الانفجار إذا عرفنا أن كل المجرات الحالية لا زالت تتباعد عن بعضها بسرعات فلكية و هذا التباعد تم رصده على يدي أدوين هابل فى عشرينيات القرن المنصرم حين لاحظ أن أطياف جميع المجرات الممكن رصدها تبدى انزياحا طيفيا نحو الطرف الاحمر : فمن المعروف أن اللون الأحمر هو صاحب اطول الالوان الكوجية المرئية و كلما ابتعد جسم ما عنا فإن طول الموجة الوارد منه سوف يزداد نتيجة لزيادة المسافة بيننا مما يجعله يبدي انزياحا طيفيا نحو الطرف الاحمر . و هذا هو ما تم ملاحظته عند رصد الضوء الوارد من المجرات البعيدة فى الاعماق السحيقة للكون .و قد عرفت هذه الحقيقة لأول مرة بواسطة الفلكي "ادوين هابل" نتيجة لأرصاده المتوالية طوال حقبة العشرينيات من القرن الماضي . و في عام 1948 أعلن "جورج جاموف" بعد أن جمع الأدلة المستمدة من تباعد المجرات و من دورة حياة النجوم أن الكون قد نشا من تمدد بدئي للمادة.وقد أطلق خصوم هذه النظرية عليها اسم الانفجار العظيم ( الفرقعـــــــــــــة الكبرى)BIG BANG نكاية بها غير أن المستقبل كان يخبئ براهين حـــــــــاسمة على صحتها فقد تنبأ " جاموف" بأنه نتيجة لعمليات التمدد و التبريد فلابد من تشتت وهج خافت من الإشعاع الأساسي بشكل منتظم في جميع أرجاء الكون . و بالفــعل اكتشـــف كل من" أرنو بنزياس" و" روبرت ويلسون" – بمحض الصدفة – عام 1965 بقايـــــــــا هذا الإشعاع الموزعة بانتظام في جميع أرجاء الكون, و هذا الدليل القائم على المعاينة أكـــــــد صحة نظرية الانفجار العظيم.
و نتيجة للتمدد العنيف للكون البدائي فقد أخذت حرارته تنخفض بسرعة فكانت حرارته بعد 10 من الثانية الأولى تقدر بنحو 10 درجة مطلقة أي قدر درجة حرارة الشمس بنحو ألف تريليون تريليون مرة كانت كل مكونات الكون آنذاك عبارة عن فيض غزير من الإشعاع. و لم تظهر أولى جسيمات المادة إلا بعد نحو 10 من الثانية الأولى . فطبقا لميكانيكا الـــكم فقد انبثقت جسيمات الماد نتيجة لتصادم فوتونات الإشعاع ( الفوتون هو كمية من الطـــاقة تعتمد على طول موجة الضوء). و قد غدت العلاقة بين المادة و الطاقة معروفة منذ صاغ " اينشتاين" معادلته الشهيرة ( الطاقة = الكتلة X مربع سرعة الضوء E=mc) .
و بعد نحو 14 ثانية من الانفجار انخفضت درجة حرارة الكون إلى نحو ثلاثة آلاف مليون درجة مطلقة, و عند هذه الدرجة اصبح معدل تلاشى الإلكترونات و البوزترونات نتيجة لتصادمها معا في البيئة الأولية الكثيفة أعلى من معدل تكونها على حساب الفوتونات , وهو الأمر الذي كان و لابد أن يؤدى إلى فناء المادة الكونية كلها و تحولها إلى اشعاع و بالتالي انعدام أي فرصة ليتطور الكون على النحو الذي نراه الآن و الذي سمح في النهاية بوجودنا فيه. و لكن لحسن الحظ حدث نوع من انكسار التناظر بين نسبة الإلكترونـــــــــات و البوزترونات لصالح الأولى بفرق بالغ الضآلة وهذا الفرق الضئيل جدا هو الذي نجا من عملية التلاشي الأولية و أدي في النهاية لتكوين كل المادة المرئية في الكون.
و قد غدت مسالة انكسار التناظر في الظواهر الطبيعية معروفة منذ اكتشفها لأول مرة العالمين الصينيين "فرانك يانج" و" تسو نج داولى" عام 1956 ثم برهنت"شين شيونج" من جامعة كولومبيا تجريبيا على هذا الكشف, وهو ما يعد برهانا على إمكانية حدوث مثل هذا الانكسار في إحدى خواص الطبيعة في البدايات المبكرة للكون.
و بعد نحو 3 دقائق من الانفجار انخفضت درجة حرارة الكون إلى نحو ألف مليون درجة مطلقة و عند هذه الدرجة استطاعت البروتونات ان تتحد مع النيوترونات لتكون نوى ذرية مستقرة. و كانت أول هذه النوى هي نواة الديوتيريوم (النظير الثقيل للهيدروجين) و تتألف نواته من بروتون واحد و نيوترون واحد . ولم تكن هذه النوى ثابتة في ظل درجات الحرارة العالية السائدة آنذاك فكانت تميل إما إلى التحلل لمكوناتها من جديد و إما إلى الاتحاد مع جسيمات أخرى لتكوين نوى اكثر تعقيدا و لكنها أيضا اكثر استقرارا . فعندما تصطدم نواة اليوتيريوم ببروتون واحد تتكون نواة" الهليوم-3" الأكثر استقرارا و نتيجة للمزيد من التصادمات تتكون نواة "الهليوم-4"بالغة الاستقرار.
و كان احتمال حدوث هذه التفاعلات النووية مرتفعا جدا آنذاك نظرا لكثافة المادة العـــالية في الكون البدائي الغض. و هكذا كانت نوى الذرات المتوافرة بعد الدقيقة الثالثة من الانفجار مؤلفة أساسا من 73% هيدروجين بالإضافة إلى 27% هليوم و هي تقريبا نفس النسبة الموجودة في الكون الآن أي أن مكونات الكون الأساسية قد تحددت بشكل أساسي في تلك اللحظة بشكل شبه نهائي و استمرت حتى الآن.
نشأة النجوم و الكواكب:
و مع استمرار انخفاض درجة حرارة الكون نتيجة للتمدد السريع الناشئ عن الانفجار تمكنت القوة الكهرومغناطيسية في النهاية من ممارسة نشاطها فتمكن البروتون الوحيد في نواة الهيدروجين من جذب إلكترون واحد لتتكون ذرة الهيدروجين في حين تمكنت نواة الهليوم من جذب إلكترونين لتتكون ذرة الهليوم و إذ ذاك استمرت هذه المكونات الذرية في التمدد حتى حدث في توزيع المادة الكونية نوع آخر من انكسار التناظر جعل كثافة المادة في مناطق معينة أعلى منها في مناطق أخرى . و إحدى الآليات المقترحة لتعليل هذا الانكسار هي وجود نوع من الأوتار الكونية لها القدرة على تخزين كميات هائلة من الطاقة تؤدى لممارستها لقوى جاذبة تجمع جزيئات المادة حولها. و نتيجة لذلك أصبحت كثافة الذرات في مناطق تواجد الأوتار أعلى منها في المناطق الخالية منها . و بتأثير الجاذبية شرعت سحب الغاز في التقلص و الدوران حول نفسها ببطء و كلما زاد التقلص زادت سرعة الدوران. و بالتالي زادت تصادمات الذرات الغازية مع بعضها البعض و هو ما يؤدى إلى ارتفاع درجة الحرارة في السحابة الغازية حتى وصلت إلى الحد الذي سمح باشتعال الفرن النووي في السحابة الغازية حيث اندمجت كل أربع نوى من الهيدروجين مع بعضها البعض متغلبة على قوى التنافر فيما بينها بفعل الحرارة العالية- التي أطاحت أيضا بأغلفتها الإلكترونية- لتكون نواة هليوم واحدة و ينطلق فوتون و أشعة جاما التي شقت طريقها نحو الخارج على هيئة أشعة ضوئية.و قد أدى انبعاث الحرارة إلى زيادة الضغط داخل النجم فتوقف انكماش السحابة النجمية و أصبح لها شكل محدد. و هكذا سطع أول النجوم في سماء الكون لتبدأ مرحلة جديدة في تخليق العناصر , ففي باطن النجوم تشكلت كل العناصر الثقيلة التي نراها حولنا و التي تتألف منها أجسامنا , فقرب نهاية المخزون الهيدروجيني للنجم لا يستطيع ضغط الإشعاع معادلة وزن طبقات النجم الخارجية فيتقلص النجم من جديد بما يؤدى لارتفاع درجة حرارته نتيجة لزيادة الضغـــط و تدفع هذه الحرارة الشديدة نوى الهليوم ذاتها للاندماج مع بعضها البعض للتكون العناصر الأثقل مثل الكربون و الأكسجين و حتى اليورانيوم. و عند مرحلة معينة قد يتغلب الضغط داخل النجم على وزن طبقاته الخارجية فينفجر النجم بعنف فيم ا يعرف باسم السوبرنوفا SUPER NOVA و ينشر مادته في الفضاء. ومن هذا الحطام الكوني تتكون الكواكــب والأجيال الجديدة من النجوم . و قد تكونت مجموعتنا الشمسية نتيجة لتكثف حطام مماثل حيث تكثفت الجزيئات الغازية في قلب السديم الشمسي البدائي في حين تكونت الكواكب الصلبة و منها الأرض من الذرات الثقيلة للحطام النجمي .
فكانت الأرض البدائية عبارة عن كتلة من الصخور المنصهرة . و مع انضــغاط الأرض على نفسها في سياق عملية التكون دفعت الجزيئات المائية نحو الأحواض الأشد انخفاضا و أقصيت المواد السائلة و الغازية عنوة نحو الخارج فدفع غازي : الامونيا و الميثان بالإضافة إلى القليل من كبريتيد الهيدروجين ليتشكل غلاف الأرض الجوى البدائي الهش للأرض الذي بددته الرياح الشمسية الفتية عدة مرات و في كل مرة كان يعاد تكوينه من جديد. و من المحتمل انه قد تواجدت في هذا الغلاف الجوى كميات ضئيلة من بخار الماء الذي كانت جزيئاته تنقسم إلى مكوناتها بفعل الأشعة فوق البنفسجية ثم يعاد تكوينه من جديد بفضل النشاط الذرى للأكسجين , فكان بخار الماء يتكون من جديد باتحاد الأكسجين بالهيدروجين الحر و أيضا بذلك المشارك في تركيب الامونيا ليترك النتروجين وحده يتكاثر في الجو. كما كان بإمكان الأكسجين ان يجذب ذرات الهيدروجين من الميثان لتكوين الماء و ان يتحد مع الكبريت لتكوين ثاني أكسيد الكبريت و مع الكربون لتكوين ثاني أكسيد الكربون. و من المرجح ان ثاني أكسيد الكبريت قد اتحد مع المادة الصخرية لقشرة الأرض الهشة و ذاب في البحر المحيط بحيث تسنى في النهاية إزالة معظم آثار أكسيد الكبريت من الجو. أما ثاني أكسيد الكربون الأوسع انتشارا فبرغم ذوبان كميات منه في البحر المحيط إلا انه من المرجح انه بقيت منه مقادير كبيرة في الجو. ولابد أن تكون التفاعلات الأولية في غلاف الأرض الجوى قد استنفذت بالكامل جزيئات الأكسجين الموجودة بالجو مما حول الغلاف الجوى إلى غلاف مختزل , و لولا ذلك لما امتلكت الحياة أي فرصة للنشوء إذ ان ذرات الأكسجين المتحفزة دوما للدخول في تفاعلات جديدة كانت ستحول دون إمكانية تكون جزيئات عضوية مستقرة.
و قد عملت مركبات الكربون المتوافرة في الغلاف الجوى على إحداث تأثير الدفيئة GREEN HOUSE إذ سمحت بتدفق حرارة الشمس إلى سطح الأرض و أعاقت تسرب الأشعة المنعكسة , و قد أدى هذا التأثير إلى ارتفاع متوسط حرارة الأرض حتى تبخرت كميات كبيرة من مياه المحيطات و أدت لإحاطة الأرض كلها بالسحب. و لولا تأثير الدفيئة المبكر لكانت المحيطات قد تجمدت و أعادت كل الحرارة القادمة إليها من الشمس مرة أخري إلى الفضاء و لما تجمعت بالتالي أي طاقة قادرة على إذابة المحيطات المتجمدة و لبقى الحال على هذا الوضع المتجمد إلى يومنا هذا.
و السؤال الآن : هو كيف تطور هذا المحيط الغني بالمواد العضوية إلى بيئة غنية فعلا بالحياة ؟ و كيف نشأ أول الكائنات الحية ؟
لهذا حديث آخر و على موعد بلقاء قريب و بانتظار تعليقاتكم.
فالوجود إنما يوجد لأنه يوجد من يعيه و يدركه.ووجودنا في هذا الكون يمنحه معنى خاصا في نظرنا- على الأقل-. لقد تطورت ملكاتنا وحواسنا لإدراك الكون بالصورة التي نعرفه بها الآن و هي صورة غير كاملة , ولكنها – على أية حال- كافية لتقدير مدى روعة و جلال و عظمة هذا الكون. و أيضا لمنحنا امتيازا معينا في هذا الكون.
فإذا كان" كوبرنيكوس" قد انزل الإنسان عن عرشه في مركز الكون فان الفيزيــــــــــــــاء الكميةQUANTUM ترتقى بنا- كمراقبين - إلى عنصر أساسي في الحدث. و تجربـــة " هرة شرودنجر" التي تظل معلقة بين الحياة و الموت حتى يتم رصدها ففى هذه التجربة الشهيرة التى توضح الخصائص العجيبة لعالمنا فى ضوء فى ضوء النظرية الذرية الكمومية : توضع هرة داخل صندوق مع قارورة من السيانيد و باتظار أن يؤدى مرور فوتون ضوئي ألى فتح القارورة من عدمه تبقى الهرة معلقة بين الحياة و الموت حتى يتم رصد حركة الفوتون أو فتح الصمدوق.مما يقدم مثالا واضحا على هذه الأهمية الاستثنائية لنا كمراقبين. فالعرض الكوني يمكن تصوره كعرض مسرحـــي لا يتم بدون جمهور من المشاهدين الذين لا يتدخلون في العرض بصورة مباشرة , غير أن وجودهم ضروري لاستمرار العرض , فليس هناك مسرح بلا جمهور و لذلك فمن غيــــر المتوقع – بالنسبة لأسلوب تفكيرنا-أن يوجد كون بلا حياة.
و لذلك فليس من المستغرب أن نجد في كل عقائد البشر الدينية ربطا وثيقا بين فناء الحياة و قيامة القيامة التي تعنى نهاية الكون كله.
لقد مر الكون بمخاض صعب و قاس حتى أثمر في النهاية مجموعة الظروف التعسفية الملائمة لاحتضان الحياة و مع ذلك فلم يكن بمقدور المادة الميتة أن تنبت الحياة بنفسها. و قد برهنت بحوث الكيميائي الفرنسي اللامع "لويس باستير" على أن الحياة لا تنبت إلا من حياة و انه لا يمكن حدوث توالد تلقائي للمادة الحية من أخرى ميتة أيا كانت طبيعة هذه المادة الميتة أو خواصها أو الوسط المحيط بها.
الانفجار العظيم:
بدأ العرض الكوني منذ نحو 15 بليون عام حيث كانت كل مكونات الكون مكدسة في حيز بالغ الصغر و كانت لها كثافة لا متناهية تروع الخيال. و في لحظة الصفر بدأت مسيرة الزمان و المكان و الطاقة , إذ انفجرت هذه النقطة بمنتهى العنف انفجارا عظيما هائــلا تدافعت على أثره بكل عنف و قسوة مكونات الكون الوليد في كل الاتجاهات.
ولا ينبغي أن نتصور أن هذا الانفجار العظيم قد احدث تمددا في مكان قائم بالفعل و إنمـــا كــــان الانفجار هو لحظة خلق كل مكونات الكون. ويمكننا أن نتصور مــــــدى عنف هذا الانفجار إذا عرفنا أن كل المجرات الحالية لا زالت تتباعد عن بعضها بسرعات فلكية و هذا التباعد تم رصده على يدي أدوين هابل فى عشرينيات القرن المنصرم حين لاحظ أن أطياف جميع المجرات الممكن رصدها تبدى انزياحا طيفيا نحو الطرف الاحمر : فمن المعروف أن اللون الأحمر هو صاحب اطول الالوان الكوجية المرئية و كلما ابتعد جسم ما عنا فإن طول الموجة الوارد منه سوف يزداد نتيجة لزيادة المسافة بيننا مما يجعله يبدي انزياحا طيفيا نحو الطرف الاحمر . و هذا هو ما تم ملاحظته عند رصد الضوء الوارد من المجرات البعيدة فى الاعماق السحيقة للكون .و قد عرفت هذه الحقيقة لأول مرة بواسطة الفلكي "ادوين هابل" نتيجة لأرصاده المتوالية طوال حقبة العشرينيات من القرن الماضي . و في عام 1948 أعلن "جورج جاموف" بعد أن جمع الأدلة المستمدة من تباعد المجرات و من دورة حياة النجوم أن الكون قد نشا من تمدد بدئي للمادة.وقد أطلق خصوم هذه النظرية عليها اسم الانفجار العظيم ( الفرقعـــــــــــــة الكبرى)BIG BANG نكاية بها غير أن المستقبل كان يخبئ براهين حـــــــــاسمة على صحتها فقد تنبأ " جاموف" بأنه نتيجة لعمليات التمدد و التبريد فلابد من تشتت وهج خافت من الإشعاع الأساسي بشكل منتظم في جميع أرجاء الكون . و بالفــعل اكتشـــف كل من" أرنو بنزياس" و" روبرت ويلسون" – بمحض الصدفة – عام 1965 بقايـــــــــا هذا الإشعاع الموزعة بانتظام في جميع أرجاء الكون, و هذا الدليل القائم على المعاينة أكـــــــد صحة نظرية الانفجار العظيم.
و نتيجة للتمدد العنيف للكون البدائي فقد أخذت حرارته تنخفض بسرعة فكانت حرارته بعد 10 من الثانية الأولى تقدر بنحو 10 درجة مطلقة أي قدر درجة حرارة الشمس بنحو ألف تريليون تريليون مرة كانت كل مكونات الكون آنذاك عبارة عن فيض غزير من الإشعاع. و لم تظهر أولى جسيمات المادة إلا بعد نحو 10 من الثانية الأولى . فطبقا لميكانيكا الـــكم فقد انبثقت جسيمات الماد نتيجة لتصادم فوتونات الإشعاع ( الفوتون هو كمية من الطـــاقة تعتمد على طول موجة الضوء). و قد غدت العلاقة بين المادة و الطاقة معروفة منذ صاغ " اينشتاين" معادلته الشهيرة ( الطاقة = الكتلة X مربع سرعة الضوء E=mc) .
و بعد نحو 14 ثانية من الانفجار انخفضت درجة حرارة الكون إلى نحو ثلاثة آلاف مليون درجة مطلقة, و عند هذه الدرجة اصبح معدل تلاشى الإلكترونات و البوزترونات نتيجة لتصادمها معا في البيئة الأولية الكثيفة أعلى من معدل تكونها على حساب الفوتونات , وهو الأمر الذي كان و لابد أن يؤدى إلى فناء المادة الكونية كلها و تحولها إلى اشعاع و بالتالي انعدام أي فرصة ليتطور الكون على النحو الذي نراه الآن و الذي سمح في النهاية بوجودنا فيه. و لكن لحسن الحظ حدث نوع من انكسار التناظر بين نسبة الإلكترونـــــــــات و البوزترونات لصالح الأولى بفرق بالغ الضآلة وهذا الفرق الضئيل جدا هو الذي نجا من عملية التلاشي الأولية و أدي في النهاية لتكوين كل المادة المرئية في الكون.
و قد غدت مسالة انكسار التناظر في الظواهر الطبيعية معروفة منذ اكتشفها لأول مرة العالمين الصينيين "فرانك يانج" و" تسو نج داولى" عام 1956 ثم برهنت"شين شيونج" من جامعة كولومبيا تجريبيا على هذا الكشف, وهو ما يعد برهانا على إمكانية حدوث مثل هذا الانكسار في إحدى خواص الطبيعة في البدايات المبكرة للكون.
و بعد نحو 3 دقائق من الانفجار انخفضت درجة حرارة الكون إلى نحو ألف مليون درجة مطلقة و عند هذه الدرجة استطاعت البروتونات ان تتحد مع النيوترونات لتكون نوى ذرية مستقرة. و كانت أول هذه النوى هي نواة الديوتيريوم (النظير الثقيل للهيدروجين) و تتألف نواته من بروتون واحد و نيوترون واحد . ولم تكن هذه النوى ثابتة في ظل درجات الحرارة العالية السائدة آنذاك فكانت تميل إما إلى التحلل لمكوناتها من جديد و إما إلى الاتحاد مع جسيمات أخرى لتكوين نوى اكثر تعقيدا و لكنها أيضا اكثر استقرارا . فعندما تصطدم نواة اليوتيريوم ببروتون واحد تتكون نواة" الهليوم-3" الأكثر استقرارا و نتيجة للمزيد من التصادمات تتكون نواة "الهليوم-4"بالغة الاستقرار.
و كان احتمال حدوث هذه التفاعلات النووية مرتفعا جدا آنذاك نظرا لكثافة المادة العـــالية في الكون البدائي الغض. و هكذا كانت نوى الذرات المتوافرة بعد الدقيقة الثالثة من الانفجار مؤلفة أساسا من 73% هيدروجين بالإضافة إلى 27% هليوم و هي تقريبا نفس النسبة الموجودة في الكون الآن أي أن مكونات الكون الأساسية قد تحددت بشكل أساسي في تلك اللحظة بشكل شبه نهائي و استمرت حتى الآن.
نشأة النجوم و الكواكب:
و مع استمرار انخفاض درجة حرارة الكون نتيجة للتمدد السريع الناشئ عن الانفجار تمكنت القوة الكهرومغناطيسية في النهاية من ممارسة نشاطها فتمكن البروتون الوحيد في نواة الهيدروجين من جذب إلكترون واحد لتتكون ذرة الهيدروجين في حين تمكنت نواة الهليوم من جذب إلكترونين لتتكون ذرة الهليوم و إذ ذاك استمرت هذه المكونات الذرية في التمدد حتى حدث في توزيع المادة الكونية نوع آخر من انكسار التناظر جعل كثافة المادة في مناطق معينة أعلى منها في مناطق أخرى . و إحدى الآليات المقترحة لتعليل هذا الانكسار هي وجود نوع من الأوتار الكونية لها القدرة على تخزين كميات هائلة من الطاقة تؤدى لممارستها لقوى جاذبة تجمع جزيئات المادة حولها. و نتيجة لذلك أصبحت كثافة الذرات في مناطق تواجد الأوتار أعلى منها في المناطق الخالية منها . و بتأثير الجاذبية شرعت سحب الغاز في التقلص و الدوران حول نفسها ببطء و كلما زاد التقلص زادت سرعة الدوران. و بالتالي زادت تصادمات الذرات الغازية مع بعضها البعض و هو ما يؤدى إلى ارتفاع درجة الحرارة في السحابة الغازية حتى وصلت إلى الحد الذي سمح باشتعال الفرن النووي في السحابة الغازية حيث اندمجت كل أربع نوى من الهيدروجين مع بعضها البعض متغلبة على قوى التنافر فيما بينها بفعل الحرارة العالية- التي أطاحت أيضا بأغلفتها الإلكترونية- لتكون نواة هليوم واحدة و ينطلق فوتون و أشعة جاما التي شقت طريقها نحو الخارج على هيئة أشعة ضوئية.و قد أدى انبعاث الحرارة إلى زيادة الضغط داخل النجم فتوقف انكماش السحابة النجمية و أصبح لها شكل محدد. و هكذا سطع أول النجوم في سماء الكون لتبدأ مرحلة جديدة في تخليق العناصر , ففي باطن النجوم تشكلت كل العناصر الثقيلة التي نراها حولنا و التي تتألف منها أجسامنا , فقرب نهاية المخزون الهيدروجيني للنجم لا يستطيع ضغط الإشعاع معادلة وزن طبقات النجم الخارجية فيتقلص النجم من جديد بما يؤدى لارتفاع درجة حرارته نتيجة لزيادة الضغـــط و تدفع هذه الحرارة الشديدة نوى الهليوم ذاتها للاندماج مع بعضها البعض للتكون العناصر الأثقل مثل الكربون و الأكسجين و حتى اليورانيوم. و عند مرحلة معينة قد يتغلب الضغط داخل النجم على وزن طبقاته الخارجية فينفجر النجم بعنف فيم ا يعرف باسم السوبرنوفا SUPER NOVA و ينشر مادته في الفضاء. ومن هذا الحطام الكوني تتكون الكواكــب والأجيال الجديدة من النجوم . و قد تكونت مجموعتنا الشمسية نتيجة لتكثف حطام مماثل حيث تكثفت الجزيئات الغازية في قلب السديم الشمسي البدائي في حين تكونت الكواكب الصلبة و منها الأرض من الذرات الثقيلة للحطام النجمي .
فكانت الأرض البدائية عبارة عن كتلة من الصخور المنصهرة . و مع انضــغاط الأرض على نفسها في سياق عملية التكون دفعت الجزيئات المائية نحو الأحواض الأشد انخفاضا و أقصيت المواد السائلة و الغازية عنوة نحو الخارج فدفع غازي : الامونيا و الميثان بالإضافة إلى القليل من كبريتيد الهيدروجين ليتشكل غلاف الأرض الجوى البدائي الهش للأرض الذي بددته الرياح الشمسية الفتية عدة مرات و في كل مرة كان يعاد تكوينه من جديد. و من المحتمل انه قد تواجدت في هذا الغلاف الجوى كميات ضئيلة من بخار الماء الذي كانت جزيئاته تنقسم إلى مكوناتها بفعل الأشعة فوق البنفسجية ثم يعاد تكوينه من جديد بفضل النشاط الذرى للأكسجين , فكان بخار الماء يتكون من جديد باتحاد الأكسجين بالهيدروجين الحر و أيضا بذلك المشارك في تركيب الامونيا ليترك النتروجين وحده يتكاثر في الجو. كما كان بإمكان الأكسجين ان يجذب ذرات الهيدروجين من الميثان لتكوين الماء و ان يتحد مع الكبريت لتكوين ثاني أكسيد الكبريت و مع الكربون لتكوين ثاني أكسيد الكربون. و من المرجح ان ثاني أكسيد الكبريت قد اتحد مع المادة الصخرية لقشرة الأرض الهشة و ذاب في البحر المحيط بحيث تسنى في النهاية إزالة معظم آثار أكسيد الكبريت من الجو. أما ثاني أكسيد الكربون الأوسع انتشارا فبرغم ذوبان كميات منه في البحر المحيط إلا انه من المرجح انه بقيت منه مقادير كبيرة في الجو. ولابد أن تكون التفاعلات الأولية في غلاف الأرض الجوى قد استنفذت بالكامل جزيئات الأكسجين الموجودة بالجو مما حول الغلاف الجوى إلى غلاف مختزل , و لولا ذلك لما امتلكت الحياة أي فرصة للنشوء إذ ان ذرات الأكسجين المتحفزة دوما للدخول في تفاعلات جديدة كانت ستحول دون إمكانية تكون جزيئات عضوية مستقرة.
و قد عملت مركبات الكربون المتوافرة في الغلاف الجوى على إحداث تأثير الدفيئة GREEN HOUSE إذ سمحت بتدفق حرارة الشمس إلى سطح الأرض و أعاقت تسرب الأشعة المنعكسة , و قد أدى هذا التأثير إلى ارتفاع متوسط حرارة الأرض حتى تبخرت كميات كبيرة من مياه المحيطات و أدت لإحاطة الأرض كلها بالسحب. و لولا تأثير الدفيئة المبكر لكانت المحيطات قد تجمدت و أعادت كل الحرارة القادمة إليها من الشمس مرة أخري إلى الفضاء و لما تجمعت بالتالي أي طاقة قادرة على إذابة المحيطات المتجمدة و لبقى الحال على هذا الوضع المتجمد إلى يومنا هذا.
و السؤال الآن : هو كيف تطور هذا المحيط الغني بالمواد العضوية إلى بيئة غنية فعلا بالحياة ؟ و كيف نشأ أول الكائنات الحية ؟
لهذا حديث آخر و على موعد بلقاء قريب و بانتظار تعليقاتكم.
KHAIRI ABDEL GHANI