عالم من الخرافات

[don_quijote]

كان فهمنا للعالم حتى أمد قريب نسبيا ترسمه أكداس من الأساطير والمعتقدات الخرافية: فالمرض على سبيل المثال كان يعزى إلى السحر وتلبس الأرواح الشريرة ، وبلغ من شدة الإيمان بهذه الخرافات أن عولج "جورج الثالث" ملك إنجلترا بتعريضه للتعذيب المبرح الذى كان يرجى أن يطرد الشياطين التى تلبسته وتسببت فى مرضه.

وكانت أول ظاهرة تهرب من الخرافة الى العلم ، هى ظاهرة الخسوف ، فقد تمكن الكهنة البابليون من التنبؤ بأوقات حدوثه واحتفظوا لأنفسهم بهذه المعرفة ليستخدموها كوسيلة لإحكام سيطرتهم على شعوبهم التى كانت تؤمن بأن هذه القدرة على معرفة أوقات الخسوف لا يمكن أن تتأتى لبشر إلا بوحى الإله العليم إلى هؤلاء الكهنة- المدعين-
وفيما بعد أعلن أرسطو للناس أن سبب خسوف القمر هو سقوط ظل الأرض على القمر عندما تقع الأرض بين الشمس والقمر.

كما كان كهنة قدماء المصريين من أوائل من اكتشفوا أسرار علم الكيمياء ولعل الكلمة نفسها قد اشتقت من Chemit التى تعنى الأرض السوداء نسبة إلى تربة مصر الطينية المميزة . وقد استخدم هؤلاء الكهنة هذه المعرفة لبسط نفوذهم على الشعوب والحكام على السواء، وكانت أعمالهم تحميها جدران المعابد، وكان جزاء من تسول له نفسه إفشاء أحد أسرارها هو جرعة من حامض البروسيك القتال المستخرج من ثمار المشمش، وهكذا ظلت حدود معرفتهم خافية عنا إلى الأبد. وكان لهم بفضل هذه الأسرار المقدسة نفوذ عظيم على امتداد تاريخ مصر القديم . فكما يعلن سقراط: فإن كل إنسان يتصرف وفقاً لمعرفته ، ومعرفة العوام كانت الدوام أدنى بمراحل من معرفة الكهنة والعلماء.

فالمعرفة العلمية التى تتراكم يوماً بعد يوم ترتقى بالفكر الإنسانى وفقاً لمفاهيم العلة والمعلول، فلكل حدث أسبابه الطبيعية وكما يصرح "فرنسيس بيكون" فإنه لا يمكننا قهر الطبيعة إلا بالامتثال لأحكامها.
لقد كان من المعتقدات الشائعة لدى الأقدمين ، قدرة بعض الأحياء على التوالد الذاتى، وهذا ما عبر عنه أرسطو أنموذج الفكر المستنير لدى الإغريق. حين قال بأن:" بعض الأحياء لا ينشأ من حيوانات من نفس النوع، إذ أن توالدها ذاتى، ذلك أن بعضاً منها ينشأ من الندى الذى يسقط على النباتات ........ وينشأ البعض الآخر من الطين المتعفن والروث" !!

وقد تفاقم الاعتقاد بهذه الخرافات نتيجة للجهل المطبق بدور حياة هذه الأحياء وكان لها عبر العصور أنصارها المتحمسون ، كما فى حالة "ألكسندر روس" الذى أعلن بمنتهى الحسم أنه لا يجوز للإنسان:" أن يشك فيما إذا كانت الديدان تتولد فى الجبن والخشب، وأن الخنافس والزنابير تتولد فى روث البقر، .........، فإذا شككنا فى هذا فمعناه أننا نشك فى المنطق والعقل والتجربة ومن شك فى هذا فليذهب الى مصر حيث يجد الحقول وهى تعج بالفئران التى تكونت من طمى النيل، لسوء خط أهلها" !!

وعندما خضعت هذه المعتقدات للتمحيص العلمى الدقيق، أميط اللثام من المسببات الحقيقية لهذه الظواهر. فعندما قام الطبيب الإيطالى "ريدى" بحجب قطعة من اللحم بغطاء من قماش الشاش الرقيق وتركها حتى تعفنت فانجذب الذباب إلى رائحتها النفاذة ووضع البيض على الشاش، ثم فقس البيض عن طور الديدان بعيداً عن اللحم المفترض توالدها منه.

ثم بين عالم الأحياء الفرنسى"سبلانزى" بالتجربة أنه عندما استعمل قنينات مغلقه غلقاً محكماً، بعيداً من أى مصدر للتلوث ، محتوية على منقوعات الخضر وتركها لمدة ساعة فى ماء يغلى، ثم تركها لفترة كافية ، لم يجد فيها أى متعضيات حية عند فحصها بالمجهر على عكس ما كان يحدث لو لم تغلى هذه الأوانى جيداً وتحفظ بعيداً عن مصادر التلوث.

ثم برهن الكيميائى الفرنسى ذائع الصيت " لويس باستير" على أن الأوانى التى يجرى تعقيمها جيداً وعزلها عن الملوثات الجوية ، لا تنمو فيها أى كائنات غريبة، على عكس تلك المتروكة عرضة للملوثات الجوية، وينطبق هذا الحكم على الأطعمة والجروح البشرية على السواء .وقد استخدمت أعمال "باستير" فى التمريض الحربى ووقاية الجروح من التلوث وحفظ الأغذية أثناء حرب القرم".

كما أدت مفاهيم الفيزياء الحديثة إلى تغييرات حادة فى فهمنا للعالم المحيط بناء ولوضعنا فى الكون فمنذ أنزلت أفكار "كوبرنيكوس" الإنسان من على عرشه فى مركز الكون، فإن واقعيتنا ازدادت فى إدراك حقيقة وجودنا، ووجود الحياة ذاتها، والعالم بوجه عام.
لقد أدت ميكانيكا "نيوتن" فى القرن السابع عشر إلى تصور العالم على أنه مجموعة من الجسيمات الساكنة أو المتحركة خلال الفضاء تحكمها قوانين محددة بدقة وكان لهذا النموذج الكونى ميزتين رئيسيتين:
أولاهما: أنه أسس على نتائج التجارب على خلاف النظم السابقة التى اعتمدت على الحدس والتخمين.
وثانيهما: أنه تحرر من الاهتمام الخاص بالظروف السائدة على سطح الأرض إذ افترض أن الأجسام تتحرك على خلفية من الزمان والمكان المطلقين.

ولكن التفسير الحتمى للعالم الذى شيد على هذه الأسس الميكانيكية انهار فى مطلع القرن العشرين عندما أعلن "ألبرت أينشتاين" نظريته فى النسبية وبين أن المكان والزمان ليسا مطلقين و إنما هما مفاهيم نسبية تعتمد على المراقب. ثم قضت مفاهيم ميكانيكا الكم -وللأبد- على إمكانية المعرفة اليقينية للأحداث، حينما أعلن"فرنر هايزنبرج" عن مبدأه الشهير فى الارتياب الذى ينص على عدم إمكانية معرفة موضع أى جسيم وسرعته آنيا أبداً.

وهكذا قادتنا الفيزياء الحديثة إلى الاعتقاد بأنهيار صرح المعرفة المطلقة. ومن هنا يوضح الفيلسوف الإنجليزى "برتراند راسل " أن انتصارات العلم ليست إلا نتيجة لإحلال المشاهدة والاستنتاج محل الاعتقاد المطلق بأفكار بالية وإنه لجزء من السلوك العلمى أن نعتقد بأن المنطوق العلمى لا يدعى أنه مؤكد، بل أنه ليس إلا أكثر الأشياء احتمالاً وفقاً لما يتوافر من أدلة، وإن من أعظم الفوائد التى اكسبها العلم لأولئك الذين يفهمون روحه: هو أنه يمكنهم من أن يعيشوا دون أن يخدعوا أنفسهم بالثقة المطلقة فى مفهوم ما. كما أن الحقائق العلمية مستقلة تمام الاستقلال عن رغباتنا، وإنه لمن جنون العظمة أن نتناسى هذه الحقيقة، كما فعل " ستالين" حين رفض أن يصدق أن قوانين الوراثة البشرية يمكن أن يصل بها الطيش إلى حد تجاهل القرارات السوفيتية !!.