سر الجاريتين
لم تكن الجاريتان اللتان كان من أمرهما ما حدث من الصدمة والذهول امرأتان كما تبدوان ..! وإنما كانا شابين بارزين من رجال ديوان الأمير ! كان أحدهما ابن الوزير الأول اسمه ( تاج الدين ) ، وواحدا من أشقاء ثلاثة عرفوا من بين سائر الحاشية بالنجدة والشجاعة الخارقة ، واقترنت أسماؤهم في أنحاء الجزير كلها بالهيبة والإجلال ، وكان للأمير اعتماد بالغ عليهم في كثير من ظروفه الخاصة والمناسبات . وكان اسم أحد شقيقي هذا الشاب ( عارف ) والثاني ( جكو).
وأما الآخر فكان أحد سكرتيرية الديوان يقال له ( ممو ) وكان الصفي الوحيد لتاج الدين من بين شقيقيه وسائر أصحابه ، قد جعل الله بينهما من المودة والإخاء ما يندر اتفاق مثله بين أي أخوين أو صديقين . ولعل الذي جمعهما على ذلك التحابب والإخاء ما عرفا به من تعلقهما الشديد للجمال . فقد كانا مولهين به ولها عجيبا في كل صوره ومظاهره ، وكان يبلغ بهما التأثر بحقيقته مبلغا فوق ما هو معتاد أو طبيعي ، كما كانا في شوق شديد إلى أن يلمحا ولو مرة في العمر هاتين الأميرتين اللتين ذاع جمالهما في معظم جهات كردستان وبقاعها .
وقد كان هذا هو الذي دعاهما في ذلك اليوم إلى التنكر في لباس النساء وهيأتهن والظهور بمظهرهن ، فاستبدل كل منهما عن حلته بغلالة حريرية من أفخر أنواع الإستبرق ، وتمنطق في وسطه بمنطقة مزركشة من أفخر ما تحويه الغانيات الفاتنات . كما لف كل منهما على رأسه معجزا رائعا تتدلى من سائر حواشيه خيوطه الحريرية الناعمة ، وحبكه فوق جبينه حبكا فاتنا على نحو ما تفعله فتيات الأكراد ، وترك خصلا من شعره الطويل تبرز من فوق الصدغين ، كأنهما سالفان رائعان يظهران من تحت ذلك المعجز البديع . ثم انطلقا يستعرضان الجمال في كلا مظهريه ، مظهر الطبيعة الحالمة والمروج البديعة ، ومظهر الوجوه الفاتنة واللحاظ الساحرة ، وكان أكبره همهما هو استجلاء جمال تينك الأميرتين اللتين سحرتا الجزيرة باسميهما ، وما زالا منذ أمد بعيد يترقبان الفرص السانحة لرؤيتهما .
وفي أثناء رجوعهما مع الناس كانا قد انتشيا بروح الجمال وثمل عقل كل منهما بخمره ، فكان لرؤيتهما في تلك الساعة فعل الطعنة القاضية التي صدعت قلبيهما . ولم يكن ذلك كله ليفقدهما الرشد والإدراك لولا أن حقيقة روحانية أجلَّ من ذلك ساورتهما وطغت على مشاعرهما . كانت تلك الحقيقة هي الحب .. الحب الروحاني الخالص الذي يتسامى على الإعتبارات الجسدية ، وتعالى فوق حقيقة الجنسية من ذكورة وأنوثة . فقد مس كل من كليهما سويداء قلبه ، وانطلق تياره الخفاق منبعثأ في كل مداخل الروح الأخرى التي كانت تعلقت بها منذ الأزل ، ثم ضلت عنه في منحدرهما إلى خضم هذا العالم المتلاطم ، حيث طفقت تبحث عنهما بين صور الطبيعة والأزهار . وتصغي إلى صوتها في غناء العنادل والأطيار ، وتفتش عن مظهرها في الوجوه والأشكال ، إلى أن التقت بها اليوم بعد الشوق المستعر والفراق الطويل . فلا غرابة أن تذهل الروح في تلك الساعة عن جسمها ، ولا عجب حينئذ للعين أن تشخص وللعقل أن يتبدد وللإحساس أن يغيض . ولا غرابة أن يتغلب الحب .. فيصرع ذينك الفارسين ويطرحهما كفراشة بين أذيال اللهب .
وبعد هزيع طويل مضى من تلك الليلة ، استطاع الجسم أن يلفت إليه روحه ويستعيدها مرة أخرى ، كما استطاع العقل أن يستيقظ ويؤوب إلى رشده .
واستيقظ ممو وتاج الدين من غيبوبتهما ليجد كل منهما نفسه منطرحا بين تلافيف ليل أسود مظلم قد توارت من سمائه النجوم ، في فلاة خاشعة لا تجوب على أرضها قدم ، ولا يرفرف في سمائها جناح . وقد أطبق عليهما جوٌّ من النسيان والذهول ، فهما لا يذكران شيئا مما حدث لهما ، ولا يعلمان ما الذي طرحهما في تلك الأرض وما السبب في بقائهما هناك . غاية ما استطاع كل منهما أن يشعر به في نفسه خفقان غريب في القلب ، وانهيار تام في الأعصاب وفتور عام في القوى ، وخبل شديد في الذاكرة ..!!
وبعد قليل نهضا في جهد ملموح وإرهاق واضح ليأخذ سمت طريقهما إلى المدينة حيث استطاعا أن يصلا إلى داخل العمران بعد تحامل شديد وإعياء . وهناك حيا كل منهما الآخر وانصرف إلى بيته .
ومضى يوم .. و يومان ... وما يقارب الإسبوع ..وكل من ممو وتاج الدين يقاسي آلاما غامضة تشتد ولا تلين !! وتزداد ولا تقل ، ويعاني شعوراً غريباَ لا يدرى سببه ولا يدرك تفسيره . وأخذ إحساس كل منهما بمظاهر الأشياء وصور الناس يختلف عن الأول اختلافا باديا ! فقد أصبح كل منهما يشعر بالوحشة من كل شيء ، ويحس بالملل من سائر ما كان يألفه . وكأنما كانت روح كل منهما تبحث في أعماق نفسه عن شيء عزيز افتقده ، وعن حقيقة ساميه لاحت لها ثم ضلت عنها ، ولكن ما هو ذلك الشيء ؟ ومتى أحس به حتى يشعر بأنه افتقده ؟ كل ذلك كان سرا غامضا عنهما ، يحومان حوله ولا يستطيعان اختراقه . وكانت غرابة ذلك الشعور وغموض تلك الأحاسيس يجعلان كلاً منهما متحفظا عن الإفضاء بذلك إلى صاحبه ، ويشعره بحرج من بيانه وإيضاحه له ، إذ قد يذهب حديثه الغامض مذاهب كثيرة بصاحبه لتفسيره وكشفه ...
غير أن تلك الآلام والمشاعر المرهقة .. ما لبثت أن اتخذت مظهرها في صورة كل منهما وأوضاعه . فقد أخذ يبدو ذلك جليا في ذبول شكلهما وفتور نشاطهما وكثرة تفكيرهما . مما يسر لكل منهما أخيرا سبيل الإفضاء بأمره وعرض شكواه وأوجاعه على الآخر ولكن دون أن يفيدهما ذلك في استجلاء شيء من الحقيقة أو فهم سرها المكنون ، اللهم إلا ما يتبادلانه من المواساة ، وما يشعران به من الأنس ولو كان مجهولا مصدرها .
وبينما كانا ذات يوم مجتمعين في بعض خلواتهما ، إذ لمح تاج الدين في يد ممو خاتما من الجوهر النادر يتألق في إصبعه ، فأمعن النظر فيه قليلا ، ثم قال :
’’ لقد كان علي أن أبارك لك هذا الخاتم البديع ، ولكني لم ألمحه في يدك قبل اليوم ، فمتى استحدثته ؟‘‘
فنظر ممو في أصابيع يديه ، وهو لا يدري شيئا عما يقوله تاج الدين ، ليجد في مكان خاتمه قطعة من الجوهر الثمين لم يكن قط شعر بها من قبل ! وسرعان ما عمد إليها فأخرجها من إصبعه وقد استولت عليه دهشة بالغة ، ثم أخذا يمعنان فيه باستغراب وتعجب . وفي تلك الأثناء انتبها إلى اسم ’’ زين ‘‘ منقوشا عليه بأجمل وشي متألق من حجارة الماس والياقوت ، وقبل أن يبدي ممو عجبه لذلك الخاتم الذي لا يدري عنه أي شيء لاحظ بوحي الحالة خاتما تماما في إصبع تاج الدين ..! وقد نقش عليه بمثل ذلك الوشي والطراز اسم ’’ ستي ‘‘ .
وغشيتهما الحيرة من جديد ، وازداد عليهما السر غموضا وأخذا يرددان في دهشة بالغة هذين الاسمين ’’ زين ‘‘ و ’’ ستي ‘‘ ، ولكن دون أن يتذكر أحد منهما من هما ستي وزين ...!!
وهنا رفع رأسه إلى ممو ، ونظر إليه كالمحموم قائلا :
’’ ويحك إنهما خاتما الأميرتين ... أميرتي الجزيرة ... شقيقتي الأمير زين الدين ...‘‘
وعاد كل منهما يحملق في الخاتم الذي بيده مرة أخرى ، ويمعن في نقشه وتألقه الرائع مما أكد لهما أن صاحبتيه ليستا سوى أختي الأمير .! ومن بين ذلك البريق المتألق أخذ سرهما الذي كان غامضا يجلو ويبين ، وذهبت ذاكرة كلم منهما تعود أدراجها إلى الماضي .... الماضي الذي كان غيبا عنهما إلى تلك اللحظة .
لقد تذكرا أنهما في يوم النوروز حاولا رؤية هاتين الأميرتين ، ولكنهما لم يريا واحدة منهما بين الوجوه والأشكال . ثم تذكرا ساعة العودة .. وتذكرا أنهما لمحا في تلك الأثناء شابين لا كالشباب .. كانا في غاية الروعة والجمال .. وأنهما قد دنيا منهما ليعرفا من يكونان ... و ... إلى هناك توقفت الذاكرة بهما ! غير أنهما لم يشكا في أن شيء غير طبيعي قد حدث لهما إذ ذاك بسبب ذينك الشابين ، وأن الغشية التي حبستهما في الفلاة تلك الليلة كانت من أثر ذلك الحادث ، ولا بد أن هذين الخاتمين قد وجدا لديهما منذ تلك الليلة . وأخيرا استطاعا أن يتأكدا من أن ذينك الشابين لم يكونا سوى الأميرتين اللتين كانا يبحثان عنهما ، وأنه قد قام لديهما أيضا ما كان قد قام في ذهنيهما من فكرة التنكر ... وإخفاء الحقيقة ... أما الخاتمان فلم يشكا في أنهما إنما تركتاهما في يديهما واستبدلتا بهما ما كان معهما لشعور جميل على الأقل بادلتاهما به .
وبارتفاع الستار الذي كان حائلا دون فهمهما لتلك الآلام والاحساسات التي كانت تساورهما ، شعر كل منهما براحة وانطلاقة هدأتا من حاليهما . غير أن ذلك الشعور ما لبث أن أوجد في نفس كل منهما تأثيرا مختلفا عن الآخر . أما تاج الدين فقد استطاع أن يتغلب بذلك على آلامه ، وأن ينشط ولو إلى حد من ذلك الارهاق الذي كان يعانيه . وكأنما كان معظم آلامه تلك آتيه من تعمي الأمر وغموضه عليه . وأما ممو فإن انقشاع الحقيقة بالنسبة إليه ما لبث أن أضرم جذوة ناره وزاد في دقات قلبه ، وكأنما كانت روحه قبل ذلك تائهة عن الطريق الذي اهتدت إليه ، ضالة عن الذات التي شغفت بها . أما اليوم وقد إتضح كل شيء ، وظهر انسان تلك الروح ، فهيهات منها الهدوء ما دامت بعيدة عنه ، وهيهات أن لا تثور وتضطرب إلا بعد أن تلقاه وتركن إليه .
وشعر تاج الدين بمعاني الأسى بادية في مظهر ممو فنهض اليه ، وألقى بيده على كتفه قائلاً :
’’ إسمع يا صديقي : إن من الامعان في الخطأ أن نسلم أنفسنا إلى اضطرابات من هذا النوع ، فلن تكون النتيجة بعد ذلك سوى استفحال تأثيرها واشتداد وطأتها . ولا ريب أن ذلك ليس مناسبا لمثلي ومثلك ... فكلانا في هذا البلد معروف بالجلد والإقدام وكل منا تعرفه هذه الجزيرة بالبطولة والعزم والبأس ، فماذا عسى أن يكون أثر هذا الذي نعانيه في سمعتنا إذا عرف ذلك غداً بين الناس ؟؟ وماذا سيلحق بنا إذا تسامع الناس بحديثنا ... وكيف أننا ونحن أولو العزيمة والشجاعة والبأس قد تخاذلت عزيمتنا وانهرات شجاعتنا وتبدد بأسنا بسلاح امرأتين وقوتهما فقط ..؟؟ فلينهض كل منا من فراش هذا الفتور ، ولنمط عنا رداء التوجع الوهمي الذي إنما أسبلناه نحن على نفسنا ولنتذكر أننا أشداء ... وأنه لا يمكن للوهن أن يتخذ طريقه إلى نفوسنا ..‘‘
ولكن ممو لم يكن يبدو عليه أنه يعي شيئا مما يقوله تاج الدين ، فقد كان واضحا أنه كان يقاسي آلاما عنيفة جلية في خفقات قلبه الظاهرة وعينيه المخضلتين . كان الاسم الوحيد الذي يردده هو ’’زين ‘‘ ،وكان الشيء الوحيد المنتبه إليه هو الخاتم الذي في يده . فقد كان مرة يحملق فيه ، وأخرى يقبله ويظل ضاماً عليه شفتيه .
وأخيراً نظر إلى تاج الدين وقال له :
’’ أخي : إن هذا الذي تحدثه الآن ليس ذلك الذي عرفته ، إنما هو اليوم انسان آخر ، فلا تبحث فيَّ عن شيء مما تسميه البأس والجلد والعزم . فقد والله فقدت كل ذلك ، وليس الذي تراه الآن إلا جسما متهلهلا قد عشش الألم في كل نقطة منه . وقلبا متأجاجاً تتقد فيه نار لا تعرف هولها ، أما الراحة والطاقة والجلد والصبر ، فقد انتهت علاقة كل ذلك من سائر جوارحي وجسمي فدعني على الأقل أستقبل قدري إن لم تكن تشعر بالمعذرة لي ..‘‘
ولم يكد تاج الدين يسمع هذه الكلمات من ممو حتى أيقن أن الأمر قد تجاوز به إلى حالة لا تغني فيها النصيحة والإرشاد ، وامتزجت في سائر مشاعره رقة شديدة من أجله لم يستطع حيالها إلا أن يعتصم بالسكوت .
لم تكن الجاريتان اللتان كان من أمرهما ما حدث من الصدمة والذهول امرأتان كما تبدوان ..! وإنما كانا شابين بارزين من رجال ديوان الأمير ! كان أحدهما ابن الوزير الأول اسمه ( تاج الدين ) ، وواحدا من أشقاء ثلاثة عرفوا من بين سائر الحاشية بالنجدة والشجاعة الخارقة ، واقترنت أسماؤهم في أنحاء الجزير كلها بالهيبة والإجلال ، وكان للأمير اعتماد بالغ عليهم في كثير من ظروفه الخاصة والمناسبات . وكان اسم أحد شقيقي هذا الشاب ( عارف ) والثاني ( جكو).
وأما الآخر فكان أحد سكرتيرية الديوان يقال له ( ممو ) وكان الصفي الوحيد لتاج الدين من بين شقيقيه وسائر أصحابه ، قد جعل الله بينهما من المودة والإخاء ما يندر اتفاق مثله بين أي أخوين أو صديقين . ولعل الذي جمعهما على ذلك التحابب والإخاء ما عرفا به من تعلقهما الشديد للجمال . فقد كانا مولهين به ولها عجيبا في كل صوره ومظاهره ، وكان يبلغ بهما التأثر بحقيقته مبلغا فوق ما هو معتاد أو طبيعي ، كما كانا في شوق شديد إلى أن يلمحا ولو مرة في العمر هاتين الأميرتين اللتين ذاع جمالهما في معظم جهات كردستان وبقاعها .
وقد كان هذا هو الذي دعاهما في ذلك اليوم إلى التنكر في لباس النساء وهيأتهن والظهور بمظهرهن ، فاستبدل كل منهما عن حلته بغلالة حريرية من أفخر أنواع الإستبرق ، وتمنطق في وسطه بمنطقة مزركشة من أفخر ما تحويه الغانيات الفاتنات . كما لف كل منهما على رأسه معجزا رائعا تتدلى من سائر حواشيه خيوطه الحريرية الناعمة ، وحبكه فوق جبينه حبكا فاتنا على نحو ما تفعله فتيات الأكراد ، وترك خصلا من شعره الطويل تبرز من فوق الصدغين ، كأنهما سالفان رائعان يظهران من تحت ذلك المعجز البديع . ثم انطلقا يستعرضان الجمال في كلا مظهريه ، مظهر الطبيعة الحالمة والمروج البديعة ، ومظهر الوجوه الفاتنة واللحاظ الساحرة ، وكان أكبره همهما هو استجلاء جمال تينك الأميرتين اللتين سحرتا الجزيرة باسميهما ، وما زالا منذ أمد بعيد يترقبان الفرص السانحة لرؤيتهما .
وفي أثناء رجوعهما مع الناس كانا قد انتشيا بروح الجمال وثمل عقل كل منهما بخمره ، فكان لرؤيتهما في تلك الساعة فعل الطعنة القاضية التي صدعت قلبيهما . ولم يكن ذلك كله ليفقدهما الرشد والإدراك لولا أن حقيقة روحانية أجلَّ من ذلك ساورتهما وطغت على مشاعرهما . كانت تلك الحقيقة هي الحب .. الحب الروحاني الخالص الذي يتسامى على الإعتبارات الجسدية ، وتعالى فوق حقيقة الجنسية من ذكورة وأنوثة . فقد مس كل من كليهما سويداء قلبه ، وانطلق تياره الخفاق منبعثأ في كل مداخل الروح الأخرى التي كانت تعلقت بها منذ الأزل ، ثم ضلت عنه في منحدرهما إلى خضم هذا العالم المتلاطم ، حيث طفقت تبحث عنهما بين صور الطبيعة والأزهار . وتصغي إلى صوتها في غناء العنادل والأطيار ، وتفتش عن مظهرها في الوجوه والأشكال ، إلى أن التقت بها اليوم بعد الشوق المستعر والفراق الطويل . فلا غرابة أن تذهل الروح في تلك الساعة عن جسمها ، ولا عجب حينئذ للعين أن تشخص وللعقل أن يتبدد وللإحساس أن يغيض . ولا غرابة أن يتغلب الحب .. فيصرع ذينك الفارسين ويطرحهما كفراشة بين أذيال اللهب .
وبعد هزيع طويل مضى من تلك الليلة ، استطاع الجسم أن يلفت إليه روحه ويستعيدها مرة أخرى ، كما استطاع العقل أن يستيقظ ويؤوب إلى رشده .
واستيقظ ممو وتاج الدين من غيبوبتهما ليجد كل منهما نفسه منطرحا بين تلافيف ليل أسود مظلم قد توارت من سمائه النجوم ، في فلاة خاشعة لا تجوب على أرضها قدم ، ولا يرفرف في سمائها جناح . وقد أطبق عليهما جوٌّ من النسيان والذهول ، فهما لا يذكران شيئا مما حدث لهما ، ولا يعلمان ما الذي طرحهما في تلك الأرض وما السبب في بقائهما هناك . غاية ما استطاع كل منهما أن يشعر به في نفسه خفقان غريب في القلب ، وانهيار تام في الأعصاب وفتور عام في القوى ، وخبل شديد في الذاكرة ..!!
وبعد قليل نهضا في جهد ملموح وإرهاق واضح ليأخذ سمت طريقهما إلى المدينة حيث استطاعا أن يصلا إلى داخل العمران بعد تحامل شديد وإعياء . وهناك حيا كل منهما الآخر وانصرف إلى بيته .
ومضى يوم .. و يومان ... وما يقارب الإسبوع ..وكل من ممو وتاج الدين يقاسي آلاما غامضة تشتد ولا تلين !! وتزداد ولا تقل ، ويعاني شعوراً غريباَ لا يدرى سببه ولا يدرك تفسيره . وأخذ إحساس كل منهما بمظاهر الأشياء وصور الناس يختلف عن الأول اختلافا باديا ! فقد أصبح كل منهما يشعر بالوحشة من كل شيء ، ويحس بالملل من سائر ما كان يألفه . وكأنما كانت روح كل منهما تبحث في أعماق نفسه عن شيء عزيز افتقده ، وعن حقيقة ساميه لاحت لها ثم ضلت عنها ، ولكن ما هو ذلك الشيء ؟ ومتى أحس به حتى يشعر بأنه افتقده ؟ كل ذلك كان سرا غامضا عنهما ، يحومان حوله ولا يستطيعان اختراقه . وكانت غرابة ذلك الشعور وغموض تلك الأحاسيس يجعلان كلاً منهما متحفظا عن الإفضاء بذلك إلى صاحبه ، ويشعره بحرج من بيانه وإيضاحه له ، إذ قد يذهب حديثه الغامض مذاهب كثيرة بصاحبه لتفسيره وكشفه ...
غير أن تلك الآلام والمشاعر المرهقة .. ما لبثت أن اتخذت مظهرها في صورة كل منهما وأوضاعه . فقد أخذ يبدو ذلك جليا في ذبول شكلهما وفتور نشاطهما وكثرة تفكيرهما . مما يسر لكل منهما أخيرا سبيل الإفضاء بأمره وعرض شكواه وأوجاعه على الآخر ولكن دون أن يفيدهما ذلك في استجلاء شيء من الحقيقة أو فهم سرها المكنون ، اللهم إلا ما يتبادلانه من المواساة ، وما يشعران به من الأنس ولو كان مجهولا مصدرها .
وبينما كانا ذات يوم مجتمعين في بعض خلواتهما ، إذ لمح تاج الدين في يد ممو خاتما من الجوهر النادر يتألق في إصبعه ، فأمعن النظر فيه قليلا ، ثم قال :
’’ لقد كان علي أن أبارك لك هذا الخاتم البديع ، ولكني لم ألمحه في يدك قبل اليوم ، فمتى استحدثته ؟‘‘
فنظر ممو في أصابيع يديه ، وهو لا يدري شيئا عما يقوله تاج الدين ، ليجد في مكان خاتمه قطعة من الجوهر الثمين لم يكن قط شعر بها من قبل ! وسرعان ما عمد إليها فأخرجها من إصبعه وقد استولت عليه دهشة بالغة ، ثم أخذا يمعنان فيه باستغراب وتعجب . وفي تلك الأثناء انتبها إلى اسم ’’ زين ‘‘ منقوشا عليه بأجمل وشي متألق من حجارة الماس والياقوت ، وقبل أن يبدي ممو عجبه لذلك الخاتم الذي لا يدري عنه أي شيء لاحظ بوحي الحالة خاتما تماما في إصبع تاج الدين ..! وقد نقش عليه بمثل ذلك الوشي والطراز اسم ’’ ستي ‘‘ .
وغشيتهما الحيرة من جديد ، وازداد عليهما السر غموضا وأخذا يرددان في دهشة بالغة هذين الاسمين ’’ زين ‘‘ و ’’ ستي ‘‘ ، ولكن دون أن يتذكر أحد منهما من هما ستي وزين ...!!
وهنا رفع رأسه إلى ممو ، ونظر إليه كالمحموم قائلا :
’’ ويحك إنهما خاتما الأميرتين ... أميرتي الجزيرة ... شقيقتي الأمير زين الدين ...‘‘
وعاد كل منهما يحملق في الخاتم الذي بيده مرة أخرى ، ويمعن في نقشه وتألقه الرائع مما أكد لهما أن صاحبتيه ليستا سوى أختي الأمير .! ومن بين ذلك البريق المتألق أخذ سرهما الذي كان غامضا يجلو ويبين ، وذهبت ذاكرة كلم منهما تعود أدراجها إلى الماضي .... الماضي الذي كان غيبا عنهما إلى تلك اللحظة .
لقد تذكرا أنهما في يوم النوروز حاولا رؤية هاتين الأميرتين ، ولكنهما لم يريا واحدة منهما بين الوجوه والأشكال . ثم تذكرا ساعة العودة .. وتذكرا أنهما لمحا في تلك الأثناء شابين لا كالشباب .. كانا في غاية الروعة والجمال .. وأنهما قد دنيا منهما ليعرفا من يكونان ... و ... إلى هناك توقفت الذاكرة بهما ! غير أنهما لم يشكا في أن شيء غير طبيعي قد حدث لهما إذ ذاك بسبب ذينك الشابين ، وأن الغشية التي حبستهما في الفلاة تلك الليلة كانت من أثر ذلك الحادث ، ولا بد أن هذين الخاتمين قد وجدا لديهما منذ تلك الليلة . وأخيرا استطاعا أن يتأكدا من أن ذينك الشابين لم يكونا سوى الأميرتين اللتين كانا يبحثان عنهما ، وأنه قد قام لديهما أيضا ما كان قد قام في ذهنيهما من فكرة التنكر ... وإخفاء الحقيقة ... أما الخاتمان فلم يشكا في أنهما إنما تركتاهما في يديهما واستبدلتا بهما ما كان معهما لشعور جميل على الأقل بادلتاهما به .
وبارتفاع الستار الذي كان حائلا دون فهمهما لتلك الآلام والاحساسات التي كانت تساورهما ، شعر كل منهما براحة وانطلاقة هدأتا من حاليهما . غير أن ذلك الشعور ما لبث أن أوجد في نفس كل منهما تأثيرا مختلفا عن الآخر . أما تاج الدين فقد استطاع أن يتغلب بذلك على آلامه ، وأن ينشط ولو إلى حد من ذلك الارهاق الذي كان يعانيه . وكأنما كان معظم آلامه تلك آتيه من تعمي الأمر وغموضه عليه . وأما ممو فإن انقشاع الحقيقة بالنسبة إليه ما لبث أن أضرم جذوة ناره وزاد في دقات قلبه ، وكأنما كانت روحه قبل ذلك تائهة عن الطريق الذي اهتدت إليه ، ضالة عن الذات التي شغفت بها . أما اليوم وقد إتضح كل شيء ، وظهر انسان تلك الروح ، فهيهات منها الهدوء ما دامت بعيدة عنه ، وهيهات أن لا تثور وتضطرب إلا بعد أن تلقاه وتركن إليه .
وشعر تاج الدين بمعاني الأسى بادية في مظهر ممو فنهض اليه ، وألقى بيده على كتفه قائلاً :
’’ إسمع يا صديقي : إن من الامعان في الخطأ أن نسلم أنفسنا إلى اضطرابات من هذا النوع ، فلن تكون النتيجة بعد ذلك سوى استفحال تأثيرها واشتداد وطأتها . ولا ريب أن ذلك ليس مناسبا لمثلي ومثلك ... فكلانا في هذا البلد معروف بالجلد والإقدام وكل منا تعرفه هذه الجزيرة بالبطولة والعزم والبأس ، فماذا عسى أن يكون أثر هذا الذي نعانيه في سمعتنا إذا عرف ذلك غداً بين الناس ؟؟ وماذا سيلحق بنا إذا تسامع الناس بحديثنا ... وكيف أننا ونحن أولو العزيمة والشجاعة والبأس قد تخاذلت عزيمتنا وانهرات شجاعتنا وتبدد بأسنا بسلاح امرأتين وقوتهما فقط ..؟؟ فلينهض كل منا من فراش هذا الفتور ، ولنمط عنا رداء التوجع الوهمي الذي إنما أسبلناه نحن على نفسنا ولنتذكر أننا أشداء ... وأنه لا يمكن للوهن أن يتخذ طريقه إلى نفوسنا ..‘‘
ولكن ممو لم يكن يبدو عليه أنه يعي شيئا مما يقوله تاج الدين ، فقد كان واضحا أنه كان يقاسي آلاما عنيفة جلية في خفقات قلبه الظاهرة وعينيه المخضلتين . كان الاسم الوحيد الذي يردده هو ’’زين ‘‘ ،وكان الشيء الوحيد المنتبه إليه هو الخاتم الذي في يده . فقد كان مرة يحملق فيه ، وأخرى يقبله ويظل ضاماً عليه شفتيه .
وأخيراً نظر إلى تاج الدين وقال له :
’’ أخي : إن هذا الذي تحدثه الآن ليس ذلك الذي عرفته ، إنما هو اليوم انسان آخر ، فلا تبحث فيَّ عن شيء مما تسميه البأس والجلد والعزم . فقد والله فقدت كل ذلك ، وليس الذي تراه الآن إلا جسما متهلهلا قد عشش الألم في كل نقطة منه . وقلبا متأجاجاً تتقد فيه نار لا تعرف هولها ، أما الراحة والطاقة والجلد والصبر ، فقد انتهت علاقة كل ذلك من سائر جوارحي وجسمي فدعني على الأقل أستقبل قدري إن لم تكن تشعر بالمعذرة لي ..‘‘
ولم يكد تاج الدين يسمع هذه الكلمات من ممو حتى أيقن أن الأمر قد تجاوز به إلى حالة لا تغني فيها النصيحة والإرشاد ، وامتزجت في سائر مشاعره رقة شديدة من أجله لم يستطع حيالها إلا أن يعتصم بالسكوت .